[عثرات بين أحلام اليقظة
هلا حبايبي هذا ثاني انتاج لي أتمنى أشوف اراءكم
أردت ذات يوم أن أفرغ ما بنفسي من عواطف إنسانية فلجأت للورق والقلم لكتابة قصة حياتي التي تحمل الكثير من الأحزان والآلام والصور المزعجة ؛ التي كان سببها سيطرة الآخرين علينا واستغلالهم لنا أنا وأخي .....
فأنا حلا وأخي بندر كنا ضحية من ضحايا أشخاص قريبين منا لكن الظروف جعلتهم يهملوننا ويفضلون المال علينا ...!
كنا منذ سنوات عائلة تتكون من أربعة أفراد أمي وأبي وأنا حلا وأخي بندر ..
بدأت حياتنا بالبساطة والهدوء والمحبة والتعاون وجميع الصفات التي تؤهلنا لكي نكون عائلة سعيدة فقد كنا نعيش في منزل صغير وتحت سقف واحد ونتقاسم الطعام فيما بيننا رغم أن الطعام كان قليلا لا يكفي لإشباع أربعة أفراد إلا أننا كنا نتقاسمه فيما بيننا . وكان سبب بساطة عيشنا هذه .. أن والدي لم يكن يملك الكثير من المال فكلما بدأ بمشروع خسر فيه وكلما ذهب بتجارة خسر فيها لأنه لم يكن يمتلك الخبرة الكافية ليحقق النجاح في مشاريعه إلى أن خسر جميع ما يملك ماعدا منزلنا الصغير وبعض المال الذي يدخره لوقت الحاجة ، كان والدي صابرا مقتنعا بالذي يملكه ولم يكن يفكر بمشروع آخر يقوم به ليكسب المال بل كان يفكر في طريقة ناجحة تجعله قادرا على اكتساب الخبرة اللازمة لينجح في مشاريعه ..
كانت والدتي على عكس والدي فلم تكن تفكر سوى الحصول على المال بأية طريقة ، لم تتقبل ظروف والدي المالية ، فقد كانت متسلطة ، تريد امتلاك كل شيء ، تريد أن ترتدي الملابس الفاخرة والإكسسوارات الغالية.. تريد أن تمتلك جميع الأشياء التي تمتلكها صديقاتها لكي تتباهى بها . لم تكن تأبه بظروف والدي المالية بل كانت تصب جميع اهتمامها في شكلها ومظهرها عند صديقاتها .. رغم أن والدي لم يكن مقصر عنها في أي شيء كانت تطلبه ، فكان ينفق نصف ماله في طلباتها حتى لا يشعرها بالخجل والإحراج عندما ترى صديقاتها يرتدين ويلبسن أفضل منها . وعلى الرغم من ذلك لم تكن شاكرة لأبي ومقدرة لظروفه بل كانت تطمع بالمزيد من الأموال والملابس الفاخرة .. وكانت تشتكي له دائما من سوء حالنا وأننا فقراء وأن الناس يأكلون ويلبسون أفضل منا .. لم تكن تشعر بأنه ينفق نصف ماله من أجلها وهي الآن تتذمر وتشكو سوء حالنا بدلا من شكره على ما يفعله من أجلها..
أما أنا وأخي بندر لم يكن والدي يصرف علينا الكثير من المال فقد كنا صغارا ولم يتجاوز عمرنا السنتان والنصف ، فعندما يريد والدي أن يشتري لنا بعض الألعاب في العيد كانت ترفض بشدة وتقول: لماذا يا جابر تصرف المال في أشياء غير مفيدة للأطفال ، هذه الألعاب تدمر عقول الصغار من غير أن ينتفعوا بها أو يستفيدوا منها فأعطني المال لي أنا اشتري به بعض الملابس والعطور أفضل من أن يأخذها الأطفال في أشياء غير مفيدة...
كان والدي يحاول إقناعها بأن تقتنع بالذي تمتلكه من الملابس بدلا من أن تأخذ أموالنا وتشتري بها ملابس جديدة ، كان يحاول إخبارها بأنه يكسب المال بالتعب ومن عرق جبينه ولابد أن يدخر بعض المال لوقت الحاجة بدلا من إضاعته في رغباتها الغير مفيدة . لكنها لم تتفهم الوضع،تظن دائما بأن أبي غنيا يملك مالا كثيرا لكنه بخيل وأنه يخبأ المال عنها حتى لا تطلب المزيد.ولم تكن متسلطة فقط وتحب جمع المال بل كانت لا تهتم بوالدي أو بنا أو بخدمة المنزل أو بصنع الغذاء لنا بل كان والدي هو الذي غالبا ما يهتم بنا وهو الذي يحضر الغذاء للمنزل ولم تكن وظيفتها في المنزل سوى التأمر والتطلب على والدي .. ومع كل هذا كانت تريد من والدي أن يحضر خادمة للمنزل لتهتم بشؤون المنزل..
حالتنا هذه لم تكن تعجب والدي إطلاقا فأنا وأخي كنا على وشك الدخول للمدرسة وطلبات المنزل تزداد سوءا يوما بعد يوم ومصروف والدي لم يكن يكفي جميع تلك الأمور ، فجميع تلك الأمور تحتاج لمدخول أقوى من مدخول والدي الذي كان مخنوقا من طلبات زوجته التي لا تعرف التقدير والاحترام....
فبدأ من ذلك اليوم بالتفكير في طريقة تكسبه مبلغا أكثر من المال ، فأخذ يفكر بتجارة كانت تدور في ذهنه منذ فترة طويلة ولكنه لم يكن ضامنا لربحها فربما يعود وهو خاسر جميع ماله أو أنه يكسب ثروة طائلة ، فأخذ يجمع المعلومات الكافية ويكسب الخبرة اللازمة لتلك التجارة حتى لا يعود مثل كل مرة وهو خاسر تجارته ... وعندما جمع والدي جميع المعلومات الكافية للقيام بتجارته قرر السفر خارج البلاد لإنجاز عمله هناك فهذه كانت آخر فرصة يمتلكها للربح . فأخبر والدتي بما كان ينوي ،كانت مترددة بعض الشيء لي من قلقها على والدي بل لقلقها على المال الذي ربما سيخسره في تجارته ولكنها وافقت بعد أن شرح لها والدي جميع الأمور التي تؤكد بأن التجارة رابحة وعدد الأيام التي سيستغرقها أثناء رحلته ربما تكون شهرا كاملا ...لم أكن أريد أن يذهب والدي لتلك التجارة التي شغلت باله فلم أشأ أن أكون أنا وأخي بندر سبب في خسارة والدي لماله فلولا قرب دخولنا أنا وأخي للمدرسة والمتطلبات التي ستحتاجها المدرسة لما فكر والدي بعمل آخر أو ذهب لتجارة تكسبه مالا أكثر من مصروفه الشهري ...
فأخذت والدتي تعد الأيام لعودة والدي فلم تكن تنتظر والدي بل كانت تنتظر المال الذي سيعود مع أبي...
ومن حيث المكالمات التي كان والدي يتحدثها مع أمي والرسائل التي يبعثها لها تبين أن الأمور تجري على ما يرام عند والدي وأنه في الأسبوع المقبل سيكون عندنا في المنزل . فرحت جدا عندما سمعت بهذا الخبر فقد غاب أبي عنا لمدة شهر كامل وغاب عن المنزل الذي افتقده وغاب عن أمي المال الذي كانت تنتظره كل يوم منذ غياب أبي عنها .. اشتقت لأبي لأنه هو الذي كان يمدنا بالحنان وهو الذي كان يهتم بنا ومنذ سافر أبي انقطع عنا كل الاهتمام والحنان ولم تكن والدتي تعوضنا بذلك أثناء غياب والدي فهي لم تكن تمدنا بالحنان والحب الذي تمتلكه أي أم حنونة لكي تعوضنا أنا وأخي عن عطف وحب الأب الذي افتقدناه أثناء غيابه ولكنها كانت تصب اهتمامها وحبها في المال. والدتي أهدت حبها واهتمامها لشيء لا يستحق التقدير وتركت ابنتها الوحيدة وطفلها الوحيد بلا عطف ولا حنان ولا حتى حضنها الدافئ الذي يحتاجه كل طفل في مثل سني وسن أخي ، وحتى بعد أن سافر أبي لم تكن تشعر بنا ولم تحاول أن تتقرب منا ، لا لم تكن تفعل من أجلنا أي شيء وهي تفعل للمال كل شيء. فقد كانت الخدمة التي أحضرها والدي قبل سفره هي التي تهتم بنا وتصنع لنا الغذاء .. فكم تمنيت أن تكون أمي هي التي تعتني بنا بدلا من الخادمة .... بعد ساعات قليلة سيصل والدي من سفره ، فرحت جدا لسماع هذا الخبر الرائع فهاهو آت من كنت أنتظره لمدة شهر كامل ، سيأتي من أخذ قلبي معه..وبعد ساعات قليلة أتى من كنت أنتظره ، أتى من كان غائبا لفترة طويلة ، وكان أخي بندر يبادلني نفس الشعور تماما وكان يكثر من قول : حلا ، متى يأتي بابا فلن أستطيع الانتظار أكثر من ذلك . كنت أحاول تهدئته فقد كان مشتاقا جدا لرؤية أبيه ، فلا ألومه فدور الأب في المنزل كبير.
فبعد قليل سمعنا صوت الباب وعلمنا بأن والدي رجع من سفره فتسابقنا أنا وأخي من يصل إليه أولا ليحظى بتلك القبلة الذي افتقدها منذ شهر ..
لكن كان هناك من أفسد هذا الاستقبال الرائع وهو والدتي فهي أول من استقبله في هذا المنزل والتي كان عقلها قد شغله المال ولم يشغله سلامة والدي فأول ما قالته له :
يا جابر ، هل ربحت التجارة أم لا ؟؟ وأين المال ؟؟؟
وهكذا أفسدت فرحة أبي في استقبالنا ولم يقل لها سوى :أنا بخير والحمد لله على سلامتي . فعلمت أنه ليس من اللباقة في استقبال شخص غائب عن المنزل استقباله بهذا الاستقبال السيء . فلم يبدي لها والدي أي اهتمام وقال لها: أين حلا وبندر ؟؟ فخرجنا إليه والابتسامة لا تفارق وجهينا وألقينا بنفسينا عليه ونحن نكثر من قول : أحبك يا بابا ، اشتقت إليك يا بابا، لا تتركنا يا بابا....
ولم نشأ أن نتركه من أيدينا فقد كنا متعلقين به وكأننا قطعة من ملابسه حتى قال : كفى اتركوني ، لن أفارقكم مرة أخرى ، أنظروا ماذا أحضرت لكما من هدايا يا طفلاي الصغيران .
بعدها تبين بأن والدي ربح في تجارته وربح مبلغا كبيرا أيضا وهذا كله بفضل الله فهذه التجارة كانت آخر أمل لوالدي لكسب المال والحمد لله ربح هذه التجارة ، ففرحت والدتي عندما سمعت الخبر وأحبت أن تعوض عما فعلته قبل قليل أثناء استقبال والدتي فقالت له : حسنا يا جابر سأذهب لأفرغ حقيبتك وأتمنى أن تعذرني عما فعلته قبل قليل ، فقد كنت قلقة عليك يا جابر ... وأخذت تناديني أنا وأخي بندر لتبين لوالدي بأنها خائفة على صحته وتقول : يا حلا يا بندر تعاليا إلي ودعا والدكما يرتاح من سفره .. فعلمت أنه لم يكن قصدها أن تدع أبي ليرتاح بل كان قصدها أن نبحث معها عن الأغراض التي جلبها والدي ...
وهكذا رجع أبي من سفره وجلب معه الكثير من الهدايا والألعاب وأهم شيء جلبه معه الفرح والسرور الذي افتقدناه منذ سفره وجلب معه الحب والحنان والعطف ليرجع إلى المنزل ما افتقده أثناء سفره ..
ففي اليوم التالي ذهب بنا والدي إلى السوق لنشتري كل ما ينقصنا من ملابس وأحذية وأطعمة وخصوصا والدتي التي كلما رأت شيئا أعجبها اشترته من غير تردد ، ولم يكن والدي يبخل علينا في أي شيء نطلبه لأنه يعتبر نفسه من الآن غنيا وتاجرا ...
ولكن بعد مرور عدة أيام أحسست بأن والدي بات متغيرا علينا ، فلم يكن يمدنا إلا بالمال ولم يكن يشبعنا مثل السابق بحبه وعطفه فقد كان باله وتفكيره مشغولان دائما ولم أعرف ما كان يشغله ، فكلما حاولنا الاقتراب منه والجلوس معه يقول لنا : اذهبا واجلسا في مكان آخر فأنا مشغول الآن..
كانت تتكرر هذه الكلمة دائما على شفتي والدي فكلما حاولنا الاقتراب منه قال لنا : أنا مشغول الآن اذهبا إلى والدتكما ..وعندما نذهب لوالدتي نراها تتحدث أغلب الوقت مع صديقاتها في الهاتف وعندما نراها متفرغة ونذهب إليها تقول لنا : اذهبا من هنا فأنا انتظر صديقتي التي ستزورني بعد قليل وتحضر لي بعضا من الملابس والإكسسوارات التي سأشتريها منها .
فهذه هي أمي لن تتغير أبدا في حب الملابس وحب الملهيات..
ولكنني كنت قلقة على والدي فأراه طوال الوقت يفكر ويحسب في الأوراق وعندما تسأله والدتي فيما يفكر يقول لها : سوف يأتينا الخير يا حنان ، سوف نصبح أغنياء يا حنان .. كنت أسمع هذه الكلمات وقلبي يخفق من الخوف فما هذا الخير الذي سيأتي لنا وتساءلت هل أبي يخطط لتجارة أخرى .. فأنا لم أكن أرغب في مغادرة أبي للمنزل مرة أخرى ولا أريد أن أفقده مرة ثانية .. فعلمت أن هذا سبب في عدم اهتمام والدي لنا فمنذ أن رجع والدي من تجارته أصبح متغيرا ، متغيرا جدا .. أصبح مثل والدتي لا يفكر إلا بالمال وكيف يحصل عليه . فقد كنت محتاجة إليه أكثر من السابق لأنني قبل شهور قليلة دخلت للمدرسة في الصف الأول ودخل أيضا للمدرسة أخي بندر فهو توأمي . كنت أتمنى أن تكون عندي أم مثل جميع الأمهات تفرح عند دخول ابنتها للمدرسة ، تحتضنها بكل دفئ ، ترافق ابنتها للباب عند ذهابها للمدرسة ، تضع يدها على يدي ابنتها وتعلمها الكتابة ، تجلس قرب ابنتها وتعلمها القراءة ، تطمئن عليها قبل نومها وتهديها قبلة على جبينها لتشعرها بالأمان ..
كنت أتمنى أن يكون لدي والد يخاف علي ، يستقبلني عند خروجي من المدرسة ، كنت أتمنى أن يكون عندي أب يقول لي : ابنتي حلا ، ماذا تريدين؟ هل تحتاجين شيئا ؟؟ ولكن هذه أحلام لم ولن تتحقق ، إضافة إلى أخي بندر الذي كان يريد أن يشعر بأنه يوجد من يفرح له ، من يساعده على كل ما يحتاج .. لكن جميع تلك التمنيات أصبحت أحلام ، نعم أحلام اليقظة ..
فوالدي خطط لتجارة أخرى وسيسافر غدا ووالدتي لم تمنعه لأن في سفره هذه المرة سيكون ربحه أكثر وسيكون عندنا منزل كبير غير المنزل الذي نعيش فيه .
وهكذا جاء أبي في اليوم التالي ونحن نستذكر دروسنا وقال لنا: بندر ، حلا إلى اللقاء سأغادر الآن . تعجب أخي من الكلام الذي قاله أبي فلم يكن يعلم بأن أبي سيذهب لتجارة أخرى ولم أخبره أنا بالأمر لأنني لم أكن أريده أن يحزن فسأل بندر والدي : بابا ، بااباا ، إلى أين ستذهب ؟؟ ظننت بأنك أتيت لتسألنا إذا كنا نحتاج شيئا ، ظننتك يا أبي ستجلس قربنا ، لكن أين تذهب الآن وتدعنا لماذا لا نذهب معك ؟؟؟أجابه والدي بكل غموض : سأسافر للتجارة ، ولماذا أنت منزعج هكذا يا بندر ؟؟ سأذهب لأحصل على المال وأشتري منزلا جديدا لنا بدل هذا المنزل الصغير الذي نسكنه ، وإذا كنت تحتاج لمن يذاكر لك فاذهب لوالدتك ، ولن تستطيع أن تأتي معي يا بندر للسفر لأنه عندك مدرسة والتجارة لا تحتاج للصغار ... فحزن أخي وأخذ يبكي بشدة وأخذت الدموع تتساقط منه الواحدة تلو الأخرى لأنه شعر بأن والدي يريد أن يتخلص منا ويضع مسؤوليتنا على والدتي ووالدتي تضع المسؤولية على والدي ولا يوجد من يهتم بنا أو يأبه لنا ، فنظر أبي لأخي وقال له : بندر ، لماذا تبكي ؟؟هل هذه دموع الفرح لأنني سأشتري منزلا جديدا؟؟ فحزن أخي أكثر فأكثر لأن والدي لم يتفهم مشاعره وأحاسيسه ، لم يعلم بأن أخي يبكي لفراقه ، لم يعلم بأن أخي يحتاج لحنان وعطف والده وأن حب والده له أهم من المنزل الذي سيشتريه ، كان أخي يحتاج لآخر قبلة من أبيه الذي سيستغرق سفره شهرين ، ولكن أبي كان سفره أهم بالنسبة إليه من طفليه الصغيرين فكان يود أن يغادر الآن لكي لا يفوته موعد الطائرة . فقال باستعجال : حسنا ، وداعا يا حلا ، وداعا يا بندر . وغادر والدي الغرفة سريعا ولحقه أخي الذي كان يناديه : بابااا ، بااابا ، أرجوك لا تذهب وتتركنا ، أنا أريدك يا أبي ، أريد حبك وعطفك ، أريد حنانك وقلبك ، لا أريد منزلا ، لا أريد أي شيء ... لكم والدي لم يأبه لما قاله أخي لم يعطه أي اهتمام اعتبر كلام أخي مجرد مزاح أطفال لا غير ، لم يرى دموع أخي المتساقطة ، لم يرى حرارة قلب أخي وهو متشوقا لتقبيل والده في آخر لحظة ، لم يرى كيف كان أخي متلهفا لاحتضان أبيه ، خرج والدي من المنزل وأغلق الباب خلفه بقوة شديدة ولم يأبه بالذي كان يركض خلفه ، سقط أخي أمام الباب وأخذ يسترسل في البكاء بعمق . لم أستطع كتمان دموعي عندما رأيت هذا الموقف ، توجهت نحو أخي بسرعة وأمرته بالنهوض لكنه رفض وقال لي : حلا ، هل ستتخلين عني من أجل المال يا حلا ؟؟ هل ستتركيني ؟؟أجبته : لا لن أتخلى عنك يا أخي فأنت توأمي وأخي الوحيد ولا أستطيع التخلي عنك فالمال جماد وبالرغم من أنه المال إلا أنه لا يشتري القلب ولا المشاعر والأحاسيس .. وأمرته بالنهوض مرة أخرى لكنه رفض حاولت إشغاله بالألعاب ، حاولت تذكيره بالمنزل الذي سيشتريه أبي ولكنه رفض وقال بشدة : لا أريد شيئا يا حلا ، لا أريد المنزل ولا أريد أن ألعب ولا أريد أن أذاكر ، أريد أبي ، أريد بابا ، سوف أنتظره هنا قرب الباب إلى أن يأتي ولن أنهض أبدا حتى يرجع باااابا ، لا أريد شيئا يا حلا لا أريد ...
ذهبت لغرفتي ورميت بنفسي على السرير وأخذت أبكي على وسادتي بشدة لم أستطع التوقف عن البكاء كلما تذكرت بأن أبي تركنا هكذا من غير أن يقول لنا بعض الكلمات ليشعرنا بأنه سيفتقدنا ، ليشعرنا بأنه يحبنا ولكن تبين بأن المال أهم منا وأن المال يعوض عن الأبناء . وبعد قليل ذهبت لأتفقد أخي فوجدته واضعا رأسه بين يديه وجالسا بقرب زاوية الباب ويبكي بصوت منخفض ويردد كلمات متقاطعة عن أبيه ... فالإنسان عندما يصدمه شيء يحتاج لفترة قصيرة يجلس فيها لوحده حتى يستطيع تقبل ما صدمه . وبعد قليل نهض أخي وذهب لسريره وألقى بنفسه عليه ووضع رأسه على وسادته وأخذ يبكي حتى ذهب في نوم عميق وأخذ يقول في نومه : أحبك يا بابا أحبك .. ونهضت من سريري ورتبت له الغطاء وتركت له قبلة على جبينه ....
وما إن استيقظت في الصباح الباكر حتى رأيت وجنتا أخي محمرتان بشدة ورأيته يتنفس بسرعة والعرق مالئ وجه فقلقت عليه واقتربت منه ووضعت يدي على جبينه حتى رأيت بأن جبينه حار ، حار جدا فعلمت أنه أصيب بالحمى فذهبت مسرعة لأمي لأوقظها ولكنها لم تستيقظ طرقت عليها الباب بقوة دون جدوى ، لم أعلم ماذا أفعل حينها فلم أود أن أخسر أخي الوحيد فأحضرت قطعة من القماش مليئة بالماء البارد ووضعتها على جبين أخي لتنخفض حرارته ففعلت كما أراه في التلفاز إذا أصيبوا بالحمى والحمد لله انخفضت حرارته شيئا فشيئا ، وعندما علمت أمي بالأمر لم تعط للموضوع أي اهتمام وقالت: هذه حمى عادية ، لماذا نذهب للطبيب والدواء بحوزتنا .
لم أتوقع من والدتي بأن ترد علي بهذا الرد السيئ فهي في الحقيقة لم تذهب له لتطمئن عليه فربما مرضه لم يكن حمى فقط بل كان أيضا نقص الحب والحنان فالواجب على أمي أن تذهب إليه وتطمئن عليه وتحتضنه بدفء وتهديه قبلة على جبينه حتى لا يشعر بأنه لا يوجد أحد يعتني به أو يعوضه عن غياب والده عنه .... وبعد أيام قليلة شفي أخي من مرضه ، فلم يكن محتاجا لدواء بل كان محتاجا لمن يهتم به ويرعاه فتكفلت أنا بهذه المسؤولية .
ومرت الأيام والأسابيع ولم يبقى سوى أسبوعان لعودة أبي من سفره وطوال تلك الفترة كنا أنا وأخي مشغولان بالمذاكرة واللعب لوحدنا فلم يوجد من يساعدنا على أي شيء يواجهنا ، تعلمنا الاعتماد على نفسينا منذ طفولتنا فكل من حولنا مشغول بملذاته التي لا تنتهي ، مررنا بظروف وصعوبات أثناء دراستنا ولم نجد من يقف معنا ، يعتني بنا ، يحرص علينا ويساعدنا ، فلذلك تولد لدينا حب الاعتماد على النفس والإرادة القوية والثقة العالية بأنفسنا ، فمنذ طفولتي كنت أشارك أخي في كل شيء حتى في الأحلام والطموح والهوايات كنا نتشاركها ....
وبعد أيام قليلة عاد والدي من سفره ولم يكن يود أن نستقبله لأننا لم نعد مهمين له مثل السابق ، المال كان أهم من طفليه . فعندما رجع من سفره وذهبنا لرؤيته رمى ما كان يحمله وقال لنا : اذهبا من هنا الآن فأنا أود أن أرتاح لا أريد رؤية أحد . كنا نود فقط أن نستقبله ونحتضنه فنحن متشوقين لرؤيته لكنه لم يكن كذلك ، عاد من سفره وهو منزعج وغاضب ولم نعلم ما السبب ، ظننا بأنه خسر في تجارته ولكن تبين لنا من حيث حقائبه بأنه ربح الكثير من المال.علمت بعدها أن والدي تغير ، تغير كثيرا ، المال أخذ عقله كما أخذ عقل أمي... وبعد أيام صدق أبي بوعده واشترى لنا منزلا كبيرا ، يظن والدي بأن المنزل والمال الذي يمدنا به هذا هو أهم شيء في الدنيا ، لم يكن يظن ولو للحظة بأننا محتاجان لحنانه وعطفه وكذلك أمي لم تكون ولو للحظة تمدنا بحبها وتسقينا من حنانها... كان شغلها الشاغل في الدنيا المال لا طفليها الوحيدين المحتاجين لها ..... وبعد فترة من الزمن لاحظت بأن الخلافات كثرت في منزلنا بسبب أمي فهي لم تشعر والدي يوما بأنها زوجة صالحة أو أما حنونة لم تشعره بأنها زوجة تهتم وتعتني بزوجها . فعلمت أنه لست أنا وأخي فقط من كنا بحاجة إليها بل كان والدي أيضا بحاجة لها ، فلو كانت أمي تهتم بنا لأحس والدي بالمسؤولية واهتم بنا هو أيضا ، لكن والدتي لم تكن من النوع الذي يهتم بمنزله ، فكان والدي غالبا ما ينصحها ولكنها لا تأبه لما يقوله، كان والدي يمر بظروف صعبة ويتمنى أن تقف والدتي معه وتساعده لكنها تستهين دائما بما يقوله أبي ، كانت خلافاتهما تتكرر كل يوم على مسامعنا أنا وأخي يأبها لما كنا نسمعه من هما ، كان هدف كل منهما أن يربح في المشاجرة وينتصر على الآخر ، وكان الغلط على والدتي فهي لم تشعر يوما بالمسؤولية اتجاه زوجها وأطفالها.
ومرت الأيام وقرر والدي السفر مرة أخرى للخارج فقد اعتاد على الأمر واعتدنا نحن أيضا عليه فلم يعد يهمنا متى سيعود ومتى سيغادر فلم يعد أبي يهتم بنا كما في السابق ... ففي اليوم التالي سافر والدي من غير أن يودعنا لماذا !! لماذا المال يفعل كل هذا؟؟ لماذا ؟؟ أدركت بعدها أن أبي لم يسافر هذه المرة من أجل المال بل لأمر آخر ولم أعلم ما هو فعادة قبل أن يسافر أبي يجري بحوثا ودراسات إلى أن يتأكد بأن تجارته ستربح ولكن هذه المرة سافر والدي بعجل وقبل أن يسافر بليلة واحدة سمعته يتشاجر مع والدتي ويقول لها : هل أنتي متأكدة من تصرفاتك يا حنان ؟؟ وتجيبه أمي بكل غرور واستهزاء : نعم يا جابر ، أنا متأكدة من تصرفاتي . فرد عليها والدي بتلك الكلمات الغامضة : حسنا يا حنان سأفعل ما أريد وتأكدي من أنك سبب فيما سيحصل . أدركت بعدها أن والدي سينفذ ما توعده لأمي فسفره هذه المرة يحتويه الغموض وعلمت أن أمي ستدمر منزلها بسبب إهمالها وعصيانها لأوامر أبي .. فقلقت بشأن هذا الموضوع لأنه مرت الأيام والأسابيع والشهور ولم يعد والدي بعد ولم تصلنا منه أية رسائل أو مكالمة هاتفية ومضى على سفره أربعة أشهر ولم نعرف عنه أي شيء إلى الآن ، قلقنا عليه كثيرا أنا وأخي فلم يكن باستطاعتنا فعل أي شيء لنعلم إن كان بخير أم لا . ووالدتي لم يكن يهمها الأمر وعندما نسألها عنه تقول سيأتي قريبا وهي في الحقيقة لا تعلم عنه أي شيء بل كانت في قمة السعادة لعدم وجود والدي في المنزل لأنها تظن بأن والدي يسبب لها الإزعاج دائما باعتراضه عليها فهي متسلطة تميل للعصبية لا تسمح لأحد بأن يعترض عليها أو يبدي رأيه لها ..
فأقبل يوم من الأيام وسمعنا الهاتف يرن فتسابقنا أنا وأخي لرفعه وكان أبي صاحب هذه المكالمة الغامضة وأخبرنا بأنه سيعود غدا من سفره وأغلقت سماعة الهاتف وأنا أشعر بفرح شديد لما سمعته قبل قليل فأخبرت أخي بما قال أبي ولم يتمالك نفسه من الفرح وذهب ليقول هذا الخبر لأمي ، فظهرت علامات العصبية على وجهها وأخذت تضغط على شفتيها بقوة وتضرب بيدها على الحائط وبدأت بالصراخ وهي تقول : لماذا سيأتي لماذا ؟؟ المنزل أشرقت فيه الشمس بعد خروجه تمنيته أن لا يرجع من سفره لماذا سيرجع ؟؟ لم نأبه لما قالته والدتي فهي دائما هكذا عصبية ومتعكرة المزاج وذهبنا لترتيب وتنظيم المنزل أنا وأخي والخادمة بناءا على طلب والدي . وفي الصباح الباكر ذهبنا للمدرسة باكرا لنحضر شهادتينا فالسنة الدراسية قد انتهت والحمد لله تفوقنا أنا وأخي في دراستنا من غير مساعدة أحد آخر لنا ، فهذا اليوم سعيد بالنسبة لنا لأنه يوم نجاحنا ويوم عودة والدي من سفره . فعدنا للمنزل باكرين لاستقبال والدي وإفراحه بتفوقنا الدراسي وذهبنا مسرعين لوالدتي لترى شهادتينا وتفرح لنا ولكنها أطفأت فرحتنا بعبوس وجهها وقالت : هل أنتما مسروران إلى هذه الدرجة لأنكما ناجحان ؟!! أجبناها والابتسامة مشرقة من وجهنا بقولنا لها : نعم ، نحن مسروران ونتمنى أن تفرحي يا ماما لنا لأننا نجحنا من غير مساعدة أحد لنا . فأجابتنا بتلك الكلمات التي لا تعرف الرحمة : ولماذا أفرح لأجلكما أنتما نجحتما من الصف الأول الابتدائي ولم تنجحا من الثانوية لأفرح لكما والدراسة سهلة ولا تحتاج للمساعدة . أطفأت فرحتنا أمي بتلك الكلمات وتمنينا في تلك اللحظة أن لم نذهب لها لأنها لم تكن تشعر بما كنا نعاني أثناء دراستنا فلم تكن فقط لم تساعدنا بل دائمة المشاجرة مع والدي . لم نأبه كثيرا لما قالته والدتي لأنه مازال لدينا والدي ليفرح لنا ونفرح له بعودته من السفر سالما ..
كنت أشك بفرح والدي لنا لأنه أيضا هو لم يساعدنا أثناء دراستنا وكان دائم السفر حينها .. وبعد قليل سمعنا طرق الباب فعلمنا أنه والدي قد رجع من سفره وتراكضنا أنا وبندر لفتح الباب لوالدي ، رأيت ما صدمني وصدم أخي وأمي رأيت والدي وبحوزته امرأة أخرى واقفة معه لم أعلم بعد من هذه المرأة الجهولة ولكنني توقعتها أن تكون زوجة أبي الثانية ، فوقفت صامتة لم أعلم ماذا أفعل حينها كنت في حيرة من أمري لم أستطع أن أقول أية كلمة ولكن فاجئني أبي بقوله : ما بك يا حلا ، ألن ترحبي بأبيك وأمك الأخرى ؟ لم أستطع تماسك دموعي وذهبت لغرفتي وأنا أبكي لم أستطع تحمل ما رأيت لم أصدق بأن أبي فعلها وتزوج بامرأة أخرى ، وسمعت والدي يقول لأخي بندر : ما بك أنت أيضا يا بندر ، هل ستفعل ما فعلته أختك وتذهب لغرفتك .. ألن ترحب بأبيك الغائب وبأمك الأخرى ؟؟ صرخ أخي بكل قوة و قال : لا ، لن أرحب بك لأنك لست أبي وهذه ليست أمي ، ليست أمي .. ولحقني أخي للغرفة وأغلق الباب خلفه وألقى بنفسه على السرير والدموع مالئة وسادته وأخذ يقول : لماذا ، لماذا يا حلا عندما كنا سنفرح بشهادتنا انطفأت فرحتنا بسبب أمي ، لماذا عندما فرحنا بعودة أبي انطفأت فرحتنا بسبب زوجته ، لماذا أشعر بأن ليس عندنا أم وأب لماذا ؟؟؟ لم أستطع إجابته لأنه لم يكن لدي كلام بل لدي دموع حزينة ، دموع مؤلمة لا تستطيع الإجابة ، وبعد قليل سمعنا صوت صراخ أمي وهي تقول لأبي : طلقها يا جابر طلقها أنا زوجتك وسأظل زوجتك طلقها . فاقترب والدي منها ووضع يده على فمها ليسكتها وقال لها : كفي عن الصراخ يا حنان ، إن سمعتك تقولين هذه الكلمات مرة أخرى سوف أطلقك أنتي يا حنان أنتي . هل تفهمين .. فذهبت أمي مسرعة لغرفتها والدموع مالئة وجهها . أما أبي فهاهو يزف زوجته للمنزل ويقول لها : اعلمي يا سوزان انك أنتي التي تدخلين وهم الذين يخرجون وأنتي تأمرين وهم ينفذون لك لأنك الآن سيدة المنزل .
وبعد عدة أيام استوعبت والدتي الصدمة ولكنها لا تخرج من غرفتها تأكل وتشرب داخل غرفتها لا تريد رؤية أحد وأما نحن فنذهب للمدرسة ونعود ونرى زوجة أبي أمامنا كل يوم ولكنها لا تحدثنا ولا نحن نحدثها ولم نعرف إلى الآن أهي طيبة أم شريرة ولكن والدي كلما رآها جالسة بقربنا يحاول إبعادها عنا فكنا نشك بأنها ربما زوجة أب فهي كلما ترانا تبتسم في وجهنا فحاولنا الاقتراب منها لربما تكون زوجة طيبة تعوضنا عن حنان أمي فذات يوم كان أبي غائبا عن المنزل وعلمنا أن هذه فرصتنا للتقرب منها فنحن ما زلنا صغارا ونحتاج لأم تهتم بنا وترعانا فذهبنا وجلسنا بالقرب منها ولم نعرف ماذا نقول لها في بداية الكلام ولكنها هي من تكلمت وقالت : ما اسمكما يا طفلي وفي أي صف أنتما؟؟ لم نعلم كيف نرد عليها ونجاوبها لأنها أحرجتنا بكلمة طفلي لم نظن أنها بهذه الطيبة فقد كان أخي بندر عاجزا عن الكلام وكذلك أنا ولكنني تشجعت وقلت لها : أنا اسمي حلا وهذا أخي التوأم لي واسمه بندر ونحن في الصف الثاني الابتدائي. فقالت لنا بكل هدوء : ما أجمل اسميكما يا طفلي ، لو كان لدي أطفال لكان أكبرهم أكبر منكما بسنتين فقط ولكنني لا أستطيع الإنجاب فأنتما طفلي من الآن فأنا سأهتم بكما وأرعاكما لكن من غير علم والدكما لأنه لم يسمح لي بأن أكلمكما.. وفجأة قطع حديثنا صراخ أبي عندما رآنا نتحدث مع بعضنا وقال : سوزان اذهبي واجمعي ملابسك سوف نسكن في منزل آخر لا يوجد معنا أحد يسكن فيه فقط أنا وأنتي . اكتشفت بعدها أن والدي لا يريد أن يتعلق بشيء ، يريد أن يعيش وحيدا لا يرعى أو يهتم بأحد وأمرنا بعدها بالذهاب لغرفتنا وذهب لأمي وقال لها : اسمعي يا حنان أنا لن أطلقك لتعتني بالطفلين ، فأنا خارج من المنزل الآن وسأرسل لكم المال بين فترة وأخرى ، إلى اللقاء أنا ذاهب . خرج والدي هذه المرة من المنزل من غير أن يرجع مرة أخرى ولم تقل له والدتي أية كلمة ، فحصل لها ما كانت تتمناه المال وعدم رؤيتها لأبي مرة أخرى .. ترجيناه أنا وبندر أن لا يخرج من المنزل فنحن بحاجة إليه ولم يكن يهتم لما كنا نقوله ، توسلناه أن يبقي زوجته معنا فهي الأمل الوحيد لنا لكنه رفض بشدة كان يقول : لا، لا ، لا تطلبان أي شيء فأنا خارج الآن ، أتريدان المال أنا مستعد ولكن أي شيء آخر فجوابي هو لا ولا .. توسله أخي بشدة وقال له : أبي ألن تفرح لنا ، لقد تفوقت في دراستي أنا وحلا ألن تشعر بالسعادة يا أبي على تفوق طفليك يا أبي ؟؟ أجابه والدي بتلك الكلمات القاسية : وما شأني أنا منكما إن تفوقتما أو رسبتما هذا لمستقبلكما .. خرج والدي وزوجته من المنزل وتركانا هكذا ساقطين على الأرض نمنعهما من الخروج لكن من دون جدوى فرأس أبي متحجر كالصخر لا يسمع أو يصنع حسابا لما نقوله ، فمن قبل عندما كان فقيرا كان قنوعا كان يقول دائما الحمد لله أما الآن أصبح متكبرا ومغرورا ويبحث عن المزيد من الأموال .
فبعد أن خرج والدي من المنزل ذلك اليوم لم نراه مرة أخرى .. لم نعلم أهو حي أم ميت .. أهو معنا داخل البلاد أم خارجها ، كان يرسل لنا المال مع السائق بين فترة وأخرى ، لم أصدق أن والدي لم يطلق والدتي فهو حتى لم يسأل عنها وهي لم تشعر بالقلق عليه ، أحسست أنا وأخي بأننا كاليتيمين من غير أب وحتى من غير أم فوالدتي مقيمة معنا بالمنزل بجسدها فقط أما قلبها وتفكيرها مع صديقاتها .. مع ملابسها .. مع ملاذتها ...
وعبرت الأيام ومرت السنين وتجاوزنا المرحلة الابتدائية والمرحلة المتوسطة بتفوق ونجاح واعتدنا على أن نعيش هكذا نقضي عظم أوقاتنا في المذاكرة كنا نساعد بعضنا في كل شيء ولم يكن لأمي أي وجود في المنزل لم تكن ترانا إلا قليلا ، كانت تعيش حياتها ونحن نعيش حياتنا ، لم تكن تعترض لما نفعله حتى لا نعترض عليها فيما تفعله ، كنا دائما نشعر بالسعادة لأننا شيئا فشيئا سنصل لأحلامنا وأهدافنا وطموحاتنا ، فقد كان أخي بندر يحلم دائما بأن يكون دكتورا للأطفال ، فكنت عندما أصاب بمرض ما هو من يعتني بي فكانت هذه فرصته ليأخذ دور الطبيب ولم يكن يهتم بي في مرضي فقط بل حتى في مشاكلي وهمومي فعندما أواجه مشكلة كان هو من يحلها ويشجعني على الصبر وعلى قوة الأمل بالله ، كان يتحمل همومي وأسراري وأنا أيضا من يتحمل همومه وأسراره.. كنت أتمنى دائما أن أكبر كاتبة يذكر اسمها في الصحف ووسائل الإعلام ، كنت أحلم دائما أن أذهب بعثة خارج البلاد وأحقق حلمي وهو طبيبة أطفال وهاأنا الآن أبني مستقبلي بنفسي بالقوة والصبر والإرادة . وكنت أنا من يشجع أخي عل بالصبر والمتابعة ... مررنا بظروف صعبة واحتجنا كثيرا لوالدتي ولكنها ترفض الاستماع إلينا ، تحاول تجنبنا .. تحاول الابتعاد عنا حتى لا نزعجها بهمومنا .. أما أبي فإلى الآن لم نرى له أي وجود يرسل المال فقط مع أننا لا نحتاج إلى المال بل نحتاج إليه .. إلى حبه .. إلى قلبه ، فلماذا يقولون دائما بأن الأبناء هم العاقين وأن الوالدين هم الذين يعانون وما أراه في منزلنا يبرهن العكس ، أرى أن الأهل هم العاقين ونحن الذين نعاني ..أم نحن حالة شاذة في المجتمع ، أنا لا أود أن أكره والديّ على عدم اهتمامهما بنا لأنهما سيبقيان أمي وأبي دائما مهما فعلا ولكنني أشعر بالقهر عندما أرى والديّ يصبان جميع اهتماماتهما وحبهما في شيء جامد لا حول له ولا قوة بينما يتركان طفليهما بلا حنان ولا حب ، تمنيت دائما بأن تضمني أم بين أحضانها وتشعرني بالدفء والحنان ولكن هذا لم ولن يتحقق إن لم تتغير أمي عن عادتها .
كنت أظن دائما بأن السعادة التي أعيشها مع أخي بندر سوف تستمر ونحقق أحلامنا مع بعض لأنه ليس لأحدنا إلا الآخر ولكن كالعادة ظني في غير مكانه ، فالشخص الوحيد الذي شجعني في حياتي بات يتغير شيئا فشيئا ، ظننت سابقا بأن هذه أوهام فأخي شاب صالح ولن يتغير أبدا ، ولكنني لاحظت بأنه بدأ يهمل دراسته وعلاماته في الامتحان متدنية جدا وليست من عادة أخي أن يخفي عني درجاته المدرسية ، وكان يرفض الإصغاء إلي إن طرحت عليه أي موضوع ، وليست من عادته أن يغط في نوم طويل بعد المدرسة ، ومما دعا إلى أن أشك في الأمر أكثر أنه قبل فترة طويلة كان يتكلم لي عن أشخاص معه في المدرسة سيئون كان الجميع يعرف بأنهم شباب منحرفون وهاهو أخي اليوم يتكلم عنهم بكل خير ويقول : أتذكرين يا حلا الأشخاص الذين كلمتك عنهم في المدرسة؟ أجبته:نعم أذكرهم ، الأشخاص السيئون المنحرفون الذين يخشى الجميع التقرب منهم ، كيف أنسى أشخاص مثلهم يضرون بطلاب المدرسة . فأخذ أخي ينظر إلي بنظرات غامضة ويقول : لا، لا يا حلا ، هذه إشاعة غير صحيحة ظهرت على هؤلاء الشباب فقد تبين لي أن أولئك الشباب مرحون جدا ويعرفون كيف يسعدون من هو بحاجة إليهم فقد ظلمناهم بكلامنا السيء نحوهم . فقلت له وأنا أعلم بأن أخي انخدع فيهم وأنه يخفي شيئا كبيرا وغامضا عني : اسمع يا بندر أولئك الشباب سيئون ومنحرفون وسوف يضيعون مستقبلك واعلم أنك مهما انجذبت إليهم فلن ينفعوك بشيء فهم بعدما يفسدون الشخص يرمونه في الظلام .. في طريق مليء بالشوك والعثرات فابتعد عنهم ، وأنا أختك يا بندر وأفهمك فإن كنت تكتم سرا فأخبرني به . فبدأ أخي يضحك بصوت مرتفع ، مرتفع جدا ولم يصمت حتى قاطعته بصراخي قائلة له : كفى ، كفى يا بندر لماذا كل هذا الضحك ؟؟ ألم يعجبك كلامي يا بندر أجب ؟؟ هل ما قلته خطأ ؟؟ فأجابني بكل سخرية واستهزاء : ما بك يا حلا تتكلمين عن أولئك الأشخاص بكل سلبية ، ألا تعلمين أنني واحد منهم . صدمت عندما سمعت هذا الخبر ومن من هذا الخبر من أخي ، أخي بندر ، لم أستطع تقبل الصدمة التي أنا فيها فهذا أسوأ خبر سمعته في حياتي ، لم أصدق أن أخي الوحيد يفعل مثل تلك الأمور أو يصادق مثل أولئك الناس ، ماذا حل بأخي ليفعل هذا ، لماذا فجأة تغير إلى هذه الدرجة ، لم أستطع أن استوعب ما قيل قبل قليل ، فقد كان أخي هم من ينصحني ، هو من يوجهني ، هو من يشجعني على أحلامي وطموحاتي وفي النهاية هو من يغير مسار طريقه ، فقررت التحدث معه لنتفاهم لماذا فعل كل ذلك ؟ وما أن نظرت خلفي حتى وجدته مسترخيا على فراشه والسيجارة في فمه ، هذه كانت الصدمة التالية بالنسبة لي ، ركضت نحوه واختطفت السيجارة منه ورميتها تحت قدمي وضغطت عليها بشدة وبقوة ، وبكل برود يخرج أخي السيجارة الثانية ويضعها في فمه واختطفتها منه أيضا ورميتها وقلت له : أخي بندر ، لماذا تفعل هذا ، ما الذي حصل لك لتتغير هكذا ؟ هل تقبل بأن أفعل مثل ما تفعل ، هل تقبل بأن أهمل دراستي ومستقبلي من أجل هذه السموم القاتلة ، ماذا فعلت لك هل قصرت عنك بشيء يا أخي أخبرني بالذي في قلبك لم تعتاد أن تخفي علي شيئا يا بندر أجبني .. صمتنا قليلا ثم بدأ بندر يسترسل لبكاء بشدة ويقول : يا حلا أني لم تقصري علي بأي شيء بل أمي التي نادرا ما كنت أناديها ، أمي التي تعيش معنا في المنزل ولا نشعر بوجودها معنا ، حلا أنتي أتي الوحيدة وأنت من كنت أشكي لها ما يدور في قلبي استطعتِ أن تعوضيني بكل شيء إلا حنان الأم فحنان الأم ليس كأي حنان آخر يستطيع أي شخص أن يعوضني به ، لا تعلمين يا حلا كم أتعذب عندما أرى أمي تمشي بقربي ولا تعيرني أي انتباه .. كم أتعذب وأتشوق كي تقول لي فقط " أحبك يا ولدي بندر" كم يتقطع قلبي عندما أرى أمي تهدي حبها واهتمامها للمال بينما أنا هنا أنتظر حبها وحضنها .. كنت أنتظر يا حلا دعواتها لي في الامتحان ، كم أتمنى يا حلا أ، يكون لدي أب يعتني بي ويخاف علي .. كنت أشعر بالقهر عندما تنادي المدرسة لآباء الطلاب وأبي لا يحضر بينهم ، كنت أشعر بأنني كاليتيم ليس لدي أب وأم .. ألا تلاحظين يا حلا أن بالمال نستطيع أن نشتري كل شيء إلا الوالدان وحنانهما .. أتمنى أن نرجع فقراء كالسابق ليكون والدنا معنا ، لنكون عائلة متفاهمة متعاونة .. حلا لماذا تلومينني لأنني صادقت أناسا سيئين هؤلاء الأشخاص يا حلا هم من أشعروني بطعم الحياة ، هم من عوضوني عن عدم اهتمام والديّ لي وحتى لو كانوا سيئون ولكنهم يفهمونني .. يا ليت والديّ يكونان سيئان ولكنهما يفهمانني يا ليت يا حلا يا ليت ... وهكذا استمر أخي بالكلام لمدة طويلة جدا ذكر لي كلاما كثيرا لم اسمعه من قبل شعرت حينها بأننا أنا وأخي كنا قريبين من بعضنا ولكن لم نكن ولو لمرة واحدة نحكي مشاعرنا لبعضنا ، كنا ندفنها في قلبينا حتى لا يزعج كل منا الآخر بهمومه وآلامه ، صحيح كما قال أخي كم صعب علينا أن نرى أمنا تضحك وتمرح بينما نحن متشوقين لحضنها الواسع بحنانه ودفأه . فلم أرد يوما أن أصبح أما حتى لا يتذوق أطفالي ما أتذوقه من آلام وأحزان فمن يعلم أبي تغير من أجل المال وأخي تغير بسبب عدم اهتمام والدينا بنا فربما أنا أتغير أيضا فحال الإنسان متقلب بين يوم وآخر.
فبعد قليل أنهى أخي حديثه وملابسه ممتلئة بدموعه البائسة الحزينة فلم يسعني إلا أن أقول له : أخي بندر لا تدع الهموم والأحزان تسيطر عليك بل أنت سيطر عليها قاومها لا تدعها تأخذ فكرك بل أنت اقهرها بصبرك عليها ولم يبقى شيء على مستقبلك فأنت في الثانوية ولم تبقى إلا سنتين لتصل إلى أحلامك وأهدافك .. فأنا أختك التي تحبك وتتمنى لك كل الخير والسعادة .. لم يستمع أخي لما قلته وصنع لنفسه ابتسامة مزيفة قال فيها : حلا أرجوك إذا كنتِ تتمنين لي كل الخير فدعيني وشأني ، دعيني أسلك الطريق الذي يسعدني فأنا مقتنع بما أفعل ولن أغير رأيي أبدا دعيني أجرب هذا الطريق يا حلا .. فلم يسعني حينها إلا أن أخرج دموعي التي كتمتها وأذهب إلى أمي فربما تشعر بالمسؤولية واو لمرة واحدة . فذهبت إليها وطرقت الباب وقالت أنها مشغولة استمريت في طرق الباب إلى أن فتحت لي وقالت : ماذا تريدين ؟؟ فقلت لها ما حصل لي قبل قليل مع أخي وقالت : وما شأنكِ به دعيه يختار طريقه بنفسه .. اتيتي إلى هنا وطرقتي علي الباب لتقولي هذا الخبر التافه !! توقعت من أمي هذا الرد السيء فلم تعتني بنا ونحن صغارا فهل ستعتني بنا ونحن كبارا .. فأغلقت الباب في وجهي وهي تقول : لا تأتي إليّ مرة أخرى لتحدثيني في موضوع تافه مثل هذا الموضوع . إذا كان هذا الموضوع تافه بالنسبة لأمي فما هو الموضوع المهم بالنسبة لها .
فمنذ ذلك اليوم لم أفاتح أخي في هذا الموضوع مرة أخرى لأنني متأكدة بأن أخي مهما تغير فهو شاب عاقل يعرف أين تكمن مصلحته . ومنذ ذلك اليوم ضعفت علاقتي بأخي شيئا فشيئا إلى أن جاء ذلك اليوم النحس ودخل فيه أخيه السجن بسبب رفقاء السوء الذين اصطحبوا أخي معهم ذات يوم إلى مكان بعيد وبدأوا هناك يسيرون بالسيارة ويزعجون الناس إلى أن جائتهم الشرطة ورمت بهم داخل السجن، وبعد ثلاثة أيام كاملة خرج أخي من السجن بكفالة والد صديقه .. وهكذا عاد أخي إلى المنزل وهو في قمة الندم على ما فعله .. جاء إليّ وتوسلني أن أسامحه ولكنني أبيت أن أسامحه فما فعله ليس سهلا ، خسر كل شيء كان يملكه .. توسلني بشدة أن أسامحه فسامحته بعد أن أكد لي بأنه سيرجع كما كان في السابق .. سيعود ويهتم بدروسه وسوف يترك أولئك الأشخاص السيئين الذين أدخلوه مكانا لم يدخله قط في حياته ، الحمد لله عاد أخي السابق الذي أعرفه وعاد يهتم بمذاكرته وترك شرب السجائر ، عدنا كما كنا في السابق متفاهمين وصريحين مع بعضنا البعض .
ولم أظن أنه هناك شيء آخر سيؤثر علينا مرة أخرى فلم يبق لنا إلا شهورا قليلة وننتهي من المرحلة الثانوية ونحقق أحلامنا التي رسمناها في خيالنا منذ طفولتنا ، أحلامنا التي استغرقت سنين طويلة لنصل إليها . وهاأنا الآن اقتربت من حلمي وسأصبح دكتورة للأطفال وسأصبح كاتبة يذكر اسمها في كل مكان .. كنت أتخيل دائما بأنني أركب طائرة وأجلس بقرب امرأة تقرأ كتابا يحمل اسمي ولا تعلم هذه المرأة بأنني مؤلفة هذا الكتاب .. وكنت أتخيل أنني عندما أذهب لبستان أو لحديقة وأرى شخصا كبيرا في السن جالسا على مقعد يحمل كتابا يقرأه وأكون أنا مؤلفة هذا الكتاب ، كانت لي أحلاما كثيرة أحلم بها منذ طفولتي وكنت متمسكة بها . كنت عندما أتمنى شيء وأنا صغيرة ولا أجده أولا أحصل عليه أصبر وأقول سوف أفعله إذا كبرت وهاأنا الآن كبرت ودرست وعلى وشك الانتهاء من المرحلة الثانوية وإن شاء الله أذهب بعثة خارج البلاد لأكمل دراستي هناك . كنت عندما أواجه شيئا صعبا وأيأس أتذكر كيف كنت أمر بمراحل أصعب منها ونجحت فيها ولماذا أيأس إذا كان الصبر مقيم في قلبي ولماذا أيأس إذا كانت الإرادة الصلبة ساكنة في قلبي ولماذا أيأس بعد أن علمت بأن الله فوقي يحميني وينصرني . كنت عندما أواجه موقفا صعبا وأحتاج فيه لأمي ولكن لا أجدها بقربي ولا تساندني فيه أعتبر هذا دافعا لي لكي أنجح في حياتي وأزيد من قوة إرادتي وصبري ولا أحزن بأنه ليس لدي أم تهتم بي وترعاني بل أفرح لأنه لدي أم لا تهتم بي ولكن طريقتها تجعلني أصبر وأشق طريقي بنفسي.
ومرت الأيام ونجحت في الاختبارات وتفوقت بالدرجة الكاملة التي تؤهلني لأكمل دراستي خارج البلاد. فرحت بشدة لم أستطع تمالك نفسي من شدة الفرح فأخيرا سأصل لأحلامي ، أما هو فلم يستلم شهادته بعد لأفرح له . كنت أود أن أري العالم بأكمله نتيجتي في الاختبارات .. نتيجتي بعد الصبر ، كنت أود أن أذيع نتيجتي وشهادتي في التلفاز ليراها الناس ويفرحوا من أجلي وخاصة أمي وأبي اللذان لم يعرفا حتى أحلامي وأهدافي ، تمنيت أن تضمني أمي في هذا اليوم بكل دفئ .ذهبت لغرفتي واسترخيت على فراشي وغصت في بساتين أحلامي أحسست بنفسي حينها أنني أعيش داخل كومة من الأحلام البنفسجية .. في كل مكان أرى أحلام وأحلام أرى ذكريات طفولتي ومواهبي وهواياتي .. كنت أعيش وسط الأحلام التي ستتحقق إن شاء الله عن قريب وبينما كنت غارقة في أحلامي إذ سمعت الباب فظننته أخي لأنه لا يوجد أحد يدخل لغرفتي سوى أخي فأذنت له بالدخول ولكنني وجدتها أمي .. نعم أمي من طرقت باب غرفتي ، تساءلت لماذا أمي تدخل غرفتي فليس من عادتها أن تأتي إليّ ، فكرت بأنه ربما أخي أخبرها بنجاحي وجاءت لتهنئني فعشت وسط أسئلة كثيرة ولكنها قاطعتني قائلة : ما بك يا حلا، أراكِ مذهولة ؟؟ ألن تأذني لأمك بالدخول ؟؟ فزاد تعجبي بأنها كانت تنتظرني أن أأذن لها بالدخول فهي لم تكن قط بهذا الأدب فعلمت أنه لديها أمر خطير فنهضت واقتربت منها وقلت لها : بلى، تفضلي يا أمي . وأغلقت الباب خلفها فاقتربت وجلست بقربها وبقينا صامتين لفترة قصيرة حتى قلت لها: أمي ، انظري لقد نجحت في الاختبارات النهائية بدرجة ... فقاطعتني قائلة : اسمعي يا حلا أنا لم آتي إليك لهذا الموضوع بل لموضوع آخر وأهم منه بكثير . كنت في حيرة من هذا الموضوع الذي سيكون أهم من نجاحي .. فقالت : اسمعيني يا حلا أنتي الآن شابة متعلمة ولا ينقصك سوى ساب لتتزوجينه ويوم أمس تقدم إليك رجل ووافقت عليه والآن رأيك أنتي .. قاطعتها : أرجوكِ يا أمي أنا لا أفكر في الزواج سأكمل دراستي أولا .. ولكنها لم تقتنع وقالت : لم أكمل كلامي بعد ، اسمعي إنه رجل غني جدا وسيحافظ عليكِ .. إن لم يكن لديكِ مانع ، ما رأيك ؟؟ فقلت لها : هل لأنه غني ستزوجينني إياه ألا يملك صفة أفضل من الغناء .. وكم عمره لم تذكريه لي بعد؟؟ فأجابتني : لا هو رجل صالح والجميع يعرفه وبالنسبة لعمره هو متوسط العمر ووجدته مناسبا لكِ ، فإن كان شابا سيكون طائشا وسيئا ولكن هذا الرجل ليس كباقي الرجال فهو غني يملك الكثير من المال ويبلغ من العمر الرابعة والأربعين ، لم تقولي لي ما رأيكِ يا حلا .. أجبتها وأنا مصدومة : ماذا تقولين يا أمي إنه رجلا كبيرا هل تبيعين ابنتك لرجل في مثل هذا العمر ، أمي إن كان رجلا في العشرين لقبلت به ولكن هذا في الخمسين ، أرجوكِ يا أمي لا أريده ، لا تجعلي المال يدفعك لهذا العمل الجنوني . ولكنها رفضت وأصرت على أن أوافق فلم تخيرني بين نعم ولا بل بين نعم ونعم ، ولم يكن فقط في الخمسين بل كان متزوجا ولديه أبناء وأصغر أبناءه أكبر مني بسنتين .. هذا يعني أنني سأكون أصغر من أبناءه . ولكن أمي كانت عنيدة لم يكن يهمها سوى المال فقط أما ابنتها فهي لا شيء بالنسبة لها .. ودخلنا في جدال عميق لا يخلو من الاعتراضات فأمي كانت مصرة على رأيها وأنا مرة على رأيي .. فهذا أول يوم أعترض فيه على أمي في موضوع كانت أمي دائما تفرض ونحن نوافق فقط ولكن كالعادة أمي هي التي تكسب دائما فبعد أن دفع لها ذلك الوحش مبلغا كبيرا من المال لكي أوافق فقط على طلبه للزواج منه وانتهى هذا الجدال بكلمة مني بأنني سوف أفكر في الأمر بعد أن خيرتني بين الزواج أو عدم إكمال دراستي .. فخرجا أمي من الغرفة والابتسامة مشرقة من وجهها بينما أنا الدموع الحارة تسقط مني واحدة تلو الأخرى ، فبعد أن خرجت أمي دخل أخي ورآني وأنا أبكي فتساءل عن سبب بكائي فهذا اليوم يوم نجاحي ويوم فرحي فلماذا أبكي وعندما أجبته صدم فلم يكن يتصور بأن أمي ستفعل هذا في يوم من الأيام وأين هي عندما كنا محتاجين لها وقال لي أخي : لا تقلقي يا حلا سوف أذهب وأكلمها فلن يحصل أي شيء من غير موافقتك. وخرج أخي من الغرفة متوجها إلى والدتي التي لا تعرف الرحمة حتى مع ابنيها الوحيدين وحاول أخي إقناعها بأن تغير رأيها فهذا ليس زواج بل دمار ولكنها لم تقتنع .. أخبرها بأنها ليست محتاجة إلى شيء لتزوج ابنتها من شخص كبير بالسن ولكنها أيضا لم تقتنع .. حاول إقناعها بأنني لست كبيرة حتى تزوجني من وحش لا يعرف الرحمة ولكنها لم تقتنع وقالت لأخي بكل جرأة : اسمع يا بندر لا تحاول الدفاع عن أختك فلن تنجح أبدا فأنا عندما أقول كلمة لا أتراجع عنها أبدا ، واسمع إن لم تقنع أختك بالزواج فحتى أنت لن تكمل دراستك أيضا . خرج أخي من غرفتها وهو في قمة الحيرة أيقف مع نفسه أم معي أنا وجاء إلي وأخبرني بما حدث بينه وبين والدتي ، فلم أكن أن أكون سبب في عدم إكمال أخي لدراسته ، ولكن أشار عليّ بأن لا أتزوجه و لن تستطيع أمي أن تفعل حيالنا أي شيء فهي ليست متفرغة لنا حتى لا تدعنا نكمل دراستنا خارج البلاد وهي دائما مشغولة وتقول هذا الكلام حتى تنثر في قلوبنا الرعب وتجعلنا وسيلة لتنفيذ طلباتها . حاولت أن أسمع كلام أخي ولكني خشيت أن تنفذ أمي ما يدور في ذهنها إن لم أطعها وأتزوج ذلك الوحش الذي جعل المال وسيلة لإغراء ضعفاء النفوس مثل أمي التي لا يهمها في الدنيا إلا المال .. فيا له من أمر جنوني أن تأ